السبت، 10 أكتوبر 2009

الإصلاح السياسي في المشروع الحضاري للرئيس زين العابدين بن علي


مجدي خماخم(صفاقس)

شكّل فجر السابع من نوفمبر سنة 1987 حدثا استثنائيا في تاريخ تونس المعاصر. ففي ظرف متوتّر سياسيّا ومتأزّم اقتصاديّا، في ظروف عصيبة حرجة مرّ بها وطننا، جاء تحوّل السابع من نوفمبر ليكون بمثابة حجر الزاوية لمشروع حضاري متكامل الأبعاد.وأعاد للدولة توازنها و هيبتها، وزرع الثقة في نفوس المواطنين في مستقبل أفضل يبنيه التونسيون بالكدّ والبذل، حافزهم في ذلك اعتزازهم بالانتماء لتونس وحبّهم وإخلاصهم لها. إنّ بيان السابع من نوفمبر الّذي تميّز بتجديد ووضوح وجرأة في الخطاب السياسي، وجاءت مضامينه حبلى بالوعود والآمال بما يتوافق مع تطلّعات مختلف الأطراف السياسية، قد نجح في كسب تأييدها ومساندتها. وكانت الحركة الديمقراطية وقد وجدت تناغما وانسجاما كبيرا بين بيان السابع من نوفمبر وثوابتها أوّل المساندين للتّغيير، ولا تزال سندا وقوّة دفع للمشروع الحضاري الذي أتى به التحوّل.

الإصلاح السياسي :
خطوات ومحطّات :
«إنّ شعبنا بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكل أبنائه وفئاته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه وفي ظل نظام جمهوري يولي المؤسسات مكانتها ويوفّر أسباب الديمقراطية المسؤولة».
جمل واضحة المعنى، عميقة الدّلالة. هي بمثابة المفتاح/المنهج للإصلاح السياسي المنشود في المشروع الحضاري للرئيس زين العابدين بن علي. ولقد شهدت البلاد نقاشات عميقة في الساحة السياسية والإعلامية والفكرية، ولم يكن بمقدور أي طرف التكهن بمدى سرعة الإصلاحات ومقدار الانفراج الذي يمكن أن يتحقّق على المستوى السياسي، وكيفية تحقيق المصالحة الوطنية. ولقد جاءت الأفعال لتؤكّد الأقوال، فتم إحداث المجلس الدستوري في 16 ديسمبر 1987، ووقع إصدار قانون دستوري في 25 جويلية 1988 يهدف إلى تعميق التوجه الديمقراطي وتوسيع مجال المشاركة، وتم إلغاء محكمة أمن الدّولة، ووقع إصدار قانون يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية يوم 3 ماي 1988 حدّد شروط تكوين الأحزاب وأبرز دورها في الحياة السياسية. ونتج عن هذا القانون مزيد تجسيم التعدّديّة السياسية،ولترسيخ المصالحة الوطنية، تم الإعلان عن الميثاق الوطني باعتباره إطارا يضبط قواعد مشتركة في العمل السياسي، وقد وقعت الأحزاب السياسية ومختلف الأطراف عليه في 7 نوفمبر 1988. وشهد الإعلام حركية كبرى، وتطوّرت الصحافة وتحرّرت من عديد المعوّقات، ورُفعت كل أشكال التضييق عن الصحافة الحزبية، وتمّ تمكين أبرز التنظيمات من صحف ناطقة بلسانها، وهي خطوة وجدت تجاوبا لدى النخبة السياسية.
إن الإجراءات التي تم اتخاذها لتكريس التعدّدية والدّيمقراطية وتحقيق المصالحة الوطنية، قد نجحت في فترة وجيزة في تحقيق الانفراج السياسي المنشود، وشهدت البلاد ديناميكية سياسية وحرية إعلامية في مستوى انتظارات الأحزاب السياسية من التغيير.
إثر ذلك، تم تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في 2 أفريل 1989، شاركت فيها الأحزاب السياسية السبعة. ثمّ صدر الإعلان عن العفو العام في 3 جويلية 1989 الذي تمتع به حوالي عشرين ألف مواطن.
لم تتوقف مسيرة الإصلاح السياسي، حيث صدر في 27 ديسمبر 1993 تعديل في النظام الانتخابي يضمن وجود الأحزاب الوطنية في مجلس النواب. ونتج عن ذلك دخول المعارضة إلى قبة البرلمان إثر انتخابات 20 مارس 1994، حيث فازت بـ19 مقعدا، وبذلك تجسّمت التعدّديّة في مجلس النواب لأول مرة في تاريخ تونس.
ولقد تتالت الإصلاحات والإجراءات لتعزيز المسار التعدّديّ الدّيمقراطي، فتم إصدار قانون بتاريخ 21 جويلية 1997 يتعلق بالتمويل العمومي للأحزاب السياسية. حيث تمّ إحداث المرصد الوطني للانتخابات وتمّ إقرار نسبة 20% من المقاعد لأحزاب المعارضة في الانتخابات التشريعية والبلدية، وصدرت مجموعة من القوانين تنظّم شروط الترشح للانتخابات الرّئاسية. وهذا ما جعل الانتخابات الرئاسية والتشريعية (أكتوبر 1999) تعدّدية في مستوى الانتخابات الرئاسية (4 مرشّحين) وذلك لأوّل مرة في تاريخ تونس، ومكن من تطوير عدد نوّاب الأحزاب الوطنية ليبلغ 34 نائبا، ومكّن من تفعيل الدّيمقراطية المحلّيّة حيث نتج عن الانتخابات البلدية (28 ماي 2000) تعدّديّة بالمجالس البلدية التي شاركت فيها المعارضة الوطنية.
وتواصل التمشي الإصلاحي، وكان الاستفتاء الشعبي حول تعديل الدستور الذي تم تنظيمه يوم 26 ماي 2002 فرصة لتأكيد المسار التعدّدي الديمقراطي، حيث تمّ التنصيص في مستوى الدستور على التعدّدية الحزبية وتطوّرت منظومة حقوق الإنسان.إثر ذلك جاءت الانتخابات الرئاسية والتشريعية (24 أكتوبر 2004) وكانت مناسبة لمزيد تكريس تعدّديّة الانتخابات الرئاسية (4 مرشحين) والتعدّدية في الانتخابات التشريعية. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ كلّ مناسبة انتخابية تكون محلّ متابعة دقيقة من رئيس الدّولة.
ولتأكيد الالتزام بأن التعدّديّة خيار استراتيجي لا رجعة فيه، وأن أبناء تونس قادرون على الارتقاء بالبناء الدّيمقراطي، كانت الذكرى العشرون لتحول السابع من نوفمبر مناسبة لدفع الإصلاح السياسي والمضي قدما في المسار التعدّدي الديمقراطي. حيث جاء في خطاب سيادة الرئيس في 7 نوفمبر 2007 «إن خيار التعدّدية لا رجعة فيه، وإن الأحزاب السياسية في الحكم وفي المعارضة هي أطراف المعادلة الدّيمقراطية والتنافس النزيه. ولا بدّ لها أن تكون في مستوى من الفاعلية يخول لها الاضطلاع بأدوارها على أفضل الوجوه». وتمّ إقرار جملة من الإجراءات كانت محل ترحيب من الأحزاب الوطنية أبرزها : مضاعفة المنحة القارة المخصصة لتمويل الأحزاب الممثلة بمجلس النواب، والترفيع في المنحة المخصصة لصحفها، والتخفيض في السن الدّنيا للانتخاب من عشرين سنة إلى ثماني عشرة سنة لتمكين شباب تونس من المشاركة على أوسع نطاق في الانتخابات العامة، والتقليص في عدد مكاتب الاقتراع، ودعم تركيبة المرصد الوطني لمراقبة الانتخابات، ومراجعة المجلة الانتخابية بما يكفل الترفيع في عدد المقاعد المخصصة للأحزاب السياسية إلى مستوى 25 بالمائة، والنزول بعدد المقاعد المشترطة لتكوين مجموعة برلمانية من 10 بالمائة إلى 5 بالمائة فقط، «وتدعيم حضور مختلف الحساسيات السياسية ضمن قائمة الشخصيات والكفاءات الوطنية المنتمية إلى مجلس المستشارين، وضمن قائمة الشخصيات والكفاءات الوطنية المنتمية إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومراجعة النصوص المنظمة للمجالس العليا الاستشارية لتمكين الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس النواب من عضوية كافة هذه المجالس».
ولقد صدرت مجموعة من القوانين وأدخلت تنقيحات على المجلة الانتخابية تطبيقا لما أعلنه سيادة الرئيس من قرارات.
ولأن الإصلاح السياسي هدفه الارتقاء بالمسار التعدّدي الديمقراطي وتحقيق تنمية وديناميكية سياسية تكون رافدا ودعامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولأن المواطن هو جوهر البناء الديمقراطي ومحركه وهدفه، كان من الضروري أن يتلازم مشروع الإصلاح السياسي مع منظومة متكاملة لحقوق الإنسان، تكرس قيم المواطنة وتحفظها، وتضمن للمواطنين حقوقهم وتصون كرامتهم. وفي هذا الاتّجاه وقّعت تونس على عديد الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق الطفل... كما تم إحداث الهيأة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في 7 جانفي 1991 كآلية لحماية حقوق الإنسان. وبالتوازي مع ذلك تم تطوير التشريعات المتعلقة بحقوق المرأة لتعزيز مكانتها في المجتمع وتكوير المكاسب التي حقّقتها. كما أن التعديل الدستوري لسنة 2002 قد نصّص على حقوق الإنسان وجعلها مكفولة بمقتضى الدّستور.
وإن المتابع للإصلاح السياسي بتونس على المستوى الداخلي، لا بدّ أن يقف على ما شهدته السياسة الخارجية من تطوير في خطّ واضح ملتزم بروح بيان السابع من نوفمبر. فلقد ساهمت الديبلوماسية التونسية بفاعلية في إنشاء اتحاد المغرب العربي يوم 17 فيفري 1989 بمراكش، والوحدة المغاربية خيار استراتيجي في السياسة التونسية. ولقد اتسم الموقف الرسمي من مختلف القضايا إقليميا وعربيا ودوليا بالتوازن والتعقل، والانحياز للشرعية الدولية والفانون الدولي، والتمسك بميثاق الأمم المتحدة ومبادئه السامية. ولقد تفاعلت السياسة الخارجية إيجابيا مع مختلف التطوّرات التي يشهدها العالم، حيث ساندت القضايا العربية كالقضية الفلسطينية، والمطالبة برفع الحصار عن الشعب الليبي والشعب العراقي، والوقوف إلى جانب السلم والأمن الدوليّ. وبعد الأحداث الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر 2001، ندّدت تونس بالإرهاب، ولها مواقف ثابتة ومتميّزة في ضرورة التصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة على الأمن والاستقرار في العالم. وإزاء تعالي أصوات تنادي بصراع الحضارات وبروز بعض المفاهيم الخطيرة، أكّدت تونس على أهمية الحوار بين الحضارات وتمّ إحداث كرسي بن علي لحوار الحضارات. كما دعت تونس إلى ضرورة تعزيز التعاون والتضامن الدولي وإرساء قواعد سليمة للعلاقات الدولية قوامها المصالح المشتركة، ودعت إلى إنشاء صندوق دولي للتضامن كان محل ترحيب وتقدير دوليّ. إن السياسة الخارجية التونسية قد تطوّرت مما جعل بلادنا محلّ احترام وتقدير دولي، وجعل علاقاتها على المستوى المغاربي والعربي والإفريقي والدولي متميّزة. وليس من قبيل الصّدفة أن يحظى سيادة الرئيس بالتكريم والتشريف في عديد المناسبات، من قبل عديد الهيئات والمنظمات الدّولية، فذلك تقدير للسياسة التونسية واعتراف بخياراتها وتوجهاتها الصائبة.
إن الإصلاحات السياسية التي شهدتها بلادنا قد نجحت في تحقيق عديد المكاسب، فالتعددية في المجالس المنتخبة والهيئات الاستشارية واقع، والصحافة الحزبية منتظمة الصدور ومتنوعة، وتشارك الأحزاب في الملفات التلفزية، ويتم تشريك الأحزاب في الاستشارات الوطنية حول مختلف القضايا، وتجد تصورات الأحزاب واقتراحاتها ترحيبا ويستأنس بآرائها في اتخاذ الفرارات. وتعزّزت التعدّية حيث تطوّر عدد الأحزاب القانونية ليبلغ تسعة أحزاب.

مرجعية الإصلاح السياسي :
إن الدارس للإصلاح السياسي منذ التحول بتونس لا يجد مناصا من العودة إلى الخطاب الرسمي. حيث نجد دلالات وإشارات واضحة للمرجعية الفكرية التي يستند إليها المشروع الإصلاحي. فنجد تأكيدا مستمرا على الثراء الحضاري لتونس، وما يتميز به تاريخها من علامات مضيئة وما قدّمته من إضافات للحضارة الإنسانية، مع الإشارة إلى ما يميّز بلادنا من موقع جغرافي، وما يمتاز به شعبها من تشبث بأصالته وهويّته الوطنية وانفتاحه على الحضارات ومواكبته لروح العصر. كما نجد تقديرا كبيرا لرموز حركة الإصلاح وتأكيدا على المضي قدما في المسار الإصلاحي والاستلهام من أدبيات رموز الحركة الإصلاحية ببلادنا، مع التأكيد المتواصل على الوفاء لحركة التحرر الوطني وإكبار نضالات رموز الحركة الوطنية لتحقيق الاستقلال، وما يتبع من ذلك من مسؤوليات تلقى على عاتق المجموعة الوطنية للمحافظة على مكاسب الاستقلال وتعزيز مقومات السيادة الوطنية. وهذا يؤكد أن المرجعية الفكرية للمشروع الإصلاحي نابعة من العمق الحضاري لتونس وملتزمة بالخط الإصلاحي الذي رسم ملامحه رموز حركة الإصلاح من أمثال أحمد بن أبي الضياف وخير الدين باشا والطاهر الحداد وغيرهم، مع الوفاء لحركة التحرر الوطني وإكبار رموزها، مع التأكيد المتواصل على التمسك بقيم الحداثة والعمل على تسريع عجلة التحديث ومواكبة التطورات العالمية في مختلف المجالات قصد الارتقاء بتونس إلى مصاف الدول المتقدّمة.

الأسلوب والتمشي :
إن الأسلوب الذي اعتمده الإصلاح السياسي يرتكز على التدرج والمرحلية، وقطع خطوات مدروسة وثابتة في المسار التعدّدي الديمقراطي بعيدا عن التسرّع والارتجال بما يحمي البلاد من الهزات والانزلاقات التي شهدتها عديد التجارب الدّيمقراطية في البلدان النامية..
إن الاحتكاك الذي حصل والتواصل بين ممثلي الأحزاب السياسية وممثلي حزب الأغلبية في المجالس المنتخبة (مجلس النواب والمجالس البلدية) قد أزال التخوّف والعديد من الأفكار المغلوطة، وجعل حضور المعارضة وآراءها وتصوّراتها محل ترحيب واهتمام. وتطوّرت العلاقة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة ولذلك كانت الإصلاحات التي شهدتها الساحة السياسية تراعي التطوّرات السياسية على المستوى الوطني ومواكبة للتغيّرات والتطوّرات على المستوى الإقليمي والدّولي. وإذا أقررنا أن السياسة هي فن الممكن، وحسن إدارة المصالح، فإن مسيرة الإصلاح السياسي اتسمت بالهدوء والتوازن في حدود الممكن، مع السعي المتواصل للأفضل والأرقى. إنها «ثورة هادئة» تراعي التوازنات في الساحة السياسية الوطنية وتتفاعل إيجابيا مع التغيرات والتطوّرات الدّولية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق