السبت، 10 أكتوبر 2009

مكانة الرئيس بن علي في التاريخ التونسي المعاصر

حسونة المصباحي
«برز لحظة أفول مجتمع، واشراقة مجتمع آخر، هو جاء لكي يكون جسر التحوّل، ولكي يجسّد كلّ الآمال وكلّ الطموحات وكلّ الذكريات».
فلوبير (رحلات)
ما سيذكره التاريخ والأجيال التونسية القادمة للرئيس زين العابدين بن علي هو أنه أثبت باقتدار وجدارة منذ تولّيه السلطة في السابع من نوفمبر 1987 أنه الابن البار للحركة الإصلاحية التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الوزير والمفكر خيرالدين باشا التونسي، وتواصلت في القرن العشرين مع شخصيات سياسية وفكرية مثل البشير صفر، وعلي باش حامبة، والشيخ عبد العزيز الثعالبي، والحبيب بورقيبة، وغيرهم... وهذا ما يفسّر وفاءه للشخصيات الوطنية والإصلاحية. والدليل على ذلك مبادرات اعادة الاعتبار لمن ظلموا ونسبوا خلال العقود التي أعقبت الاستقلال مثل الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وصالح بن يوسف. ومن خلال الانجازات والإصلاحات الهائلة التي قام بها على جميع المستويات، السياسية منها، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية أثبت الرئيس بن علي أيضا أنه رجل التواصل والوفاء لجميع المحاولات الاصلاحية التي سبقت عهده. لذا لم يتنكر لها، ولم يحدث قطيعة معها، ومع أصحابها، وانما عمّقها، وأكمل ما كان ناقصا فيها، بحيث يحقّ لنا أن نقول أنه ـ أي الرئيس بن علي ـ استطاع أن يجسّد كلّ خصال المصلحين الذين سبقوه.
وليس هذا بالأمر الغريب. فالرئيس بن علي الذي ولد في الثالث من شهر سبتمبر بحمّام سوسة على الساحل التونسي، والذي ينتمي الى عائلة متواضعة، تربّى منذ نعومة أظافره على احترام التقاليد التونسية الأصيلة وعلى قيم التواضع والبساطة في العيش، والاجتهاد في العمل. وبكل هذا ظل متمسّكا الى حدّ هذه الساعة. وثمة صورة جدّ معبّرة للرئيس بن علي عندما كان شابا. وقد أخذت له هذه الصورة يوم 7 نوفمبر 1955 وهو يتوسّط أعضاء «جمعية الشباب المثقف» بمسقط رأسه حمّام سوسة. وفيها نعاين على ملامحه ذلك العزم الذي يتجلّى مبكرا عند أولئك الذين يعون أدوارهم التاريخية مبكّرا.
وكان الرئيس بن علي لا يزال فتى يافعا عندما استعر النضال الوطني من أجل الاستقلال، فشارك فيه بحزم مستنيرا بمبادئ الحزب الحر الدستوري الذي كان يقود الحركة الوطنية في ذلك الوقت. وبسبب نشاطاته السياسية، اطرد من جميع المؤسسات التعليمية. غير أن ذلك لم يدم طويلا، اذ أن الشاب المتقد وطنية وحماسا لخدمة بلاده سرعان ما استأنف دراسته عالما بأن المعرفة هي المفتاح الاساسي لبلوغ الاهداف السامية التي كانت قد بدأت تتراءى له في الأفق. وكان الشعب التونسي قد شرع في وضع اللبنات الأولى لبناء الجمهورية الجديدة، لما أرسل الشاب زين العابدين بن علي مع مجموعة من الشبان الى فرنسا قصد بعث النواة الاولى للجيش الوطني التونسي. وبعد حصوله على ديبلوم المدرسة المختصة للجيش بأكاديمية «سان ـ سير» المشهورة عالميا، أحرز على عدة شهادات عسكرية أخرى في مدرسة المدفعية بـ «شالتون سورمارن» بفرنسا، والمدرسة العليا للاستعلامات والأمن، ومدرسة المدفعية المضادة للطيران بالولايات المتحدة الامريكية. وفي هذه الفترة، اهتم بدراسة الالكترونيك وحصل على شهادة مهندس في هذا المجال. فكان لذلك تأثير كبير على طريقته في العمل اذ أنه منحه كما هو يقول «ميلا واضحا للمنطق والدقة والتحليل ونظرة مستقبلية بعيدة عن الارتجال».
ومن المؤكد أن اقامته الطويلة نسبيا في فرنسا، وفي الولايات المتحدة الامريكية أثرت تأثيرا قويا في سلوكه، وفي طريقة تفكيره، ومنهجه في العمل، ومواجهة المشاكل. وهذا ما سيتضح بعد عودته الى البلاد حيث عهد إليه الاشراف على ادارة الأمن العسكري التي بعثت للوجود عام 1964. وقد ظل الرئيس بن علي على رأس الادارة المذكورة عشرة أعوام أثبت خلالها التزامه بالواجب الوطني، واحترامه لمبادئ الجمهورية، وحرصه على الدفاع عن أمن البلاد واستقرارها، مبرزا تعلقه بالخصال التي حصل عليها من خلال احتكاكه بالثقافة الغربية، مثل القدرة على الإنصات، والدقة في التحليل، والبراغماتية، والديبلوماسية الرصينة والهادئة، وتجنب التسرع والتعجل، ودراسة الملفات والمعطيات قبل اتخاذ القرار. وكان الشعار الذي التزم به، ولا يزال ملتزما به حتى هذه الساعة هو : «أنا أصغي وأفكر وأعمل».
بعد أن عمل ملحقا عسكريا في المغرب واسبانيا في نفس الوقت، التحق الرئيس بن علي بديوان وزير الدفاع، ثم عيّن مديرا عاما للأمن الوطني وذلك عام 1977 وبحكم الخطة الجديدة التي أصبح مضطلعا بها، بذل كلّ ما في وسعه لإطفاء الفتنة التي اشتعلت في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي بسبب الأزمات السياسية والاجتماعية التي أصبحت تتخبط فيها البلاد، ملتزما في ذلك بروح القانون والمسؤولية الوطنية، ومحاولا قدر الامكان التوفيق بين الأطراف المتنازعة وتوفير مناخ للحوار يضع حدا للمصادمات العنيفة التي أصبحت تهدّد الاستقرار والأمن.
ابتداء من مطلع الثمانينات، وخصوصا بعد عودته من بولونيا التي عمل فيها سفيرا لمدة أربع سنوات، شرع بن علي يقترب من هرم السلطة بحكم المسؤوليات الكبيرة والمتتالية التي تقلّدها. ففي خريف عام 1984، عيّن مديرا للأمن الوطني في فترة كانت فيها البلاد تمرّ بأزمة حادة أخرى فجرتها «أحداث الخبز». وفي ربيع عام 1986، عيّن وزيرا للداخلية. وفي مطلع صيف العام ذاته، انتخب عضوا للديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري، ثم أمينا عاما مساعدا للحزب. وكان في الواحدة والخمسين من عمره، لما أصبح وزيرا أول، محتفظا بحقيبة وزارة الداخلية. وخلال هذه السنوات العسيرة، أدرك بن علي الذي كان يقضي الجزء الأكبر من وقته داخل مكتبه، منشغلا بالعمل والتفكير بشأن المخاطر الجسيمة التي أصبحت تهدّد البلاد، منذرة بتقويض استقرارها وأمنها. فقد كانت الأزمات والهزات تزداد تفاقما يوما بعد آخر. وكانت الحركات الاصولية تعمل في الخفاء والعلن للاطاحة بالنظام. وكانت الجامعة مشلولة بسبب الاضطرابات التي كانت تكاد يومية.
وكان الغضب الشعبي قد بدأ يتجاوز الخطوط الحمراء التي تسبق الانفجار الكبير. وبسبب كلّ هذا، شرع المستثمرون الأجانب يغادرون البلاد. وراح بعض المهتمين بالشأن التونسي يؤكدون في تقاريرهم، وفي تصريحاتهم ان النظام بات على حافة الهاوية. ولأن بورقيبة كان قد بلغ من العمر عتيّا، ولم يعد قادرا على تسيير شؤون البلاد بسبب الشيخوخة والأمراض التي أنهكته وصيّرته عاجزا عن فهم واقع البلاد، فانّ المحيطين به من وزراء ومستشارين بدأوا يحيكون المؤامرات والدسائس طمعا في خلافته. أما بن علي الذي كان الأقرب الى الرئيس بورقيبة بحكم موقعه الهام والمتقدم في السلطة، وأيضا بحكم مكانته في الحزب الحاكم، فقد نأى بنفسه عن مثل تلك الدسائس وتلك المؤمرات، وظل يعمل في الليل وفي النهار محاولا الدفاع عن مصالح الدولة، وعلى الحفاظ على هيبتها المهددة بالانهيار والسقوط، وعلى اشاعة الطمأنينة في النفوس الحائرة المضطربة. فلما يتيقّن انه لن يكون قادرا على تحقيق الحدّ الأدنى ممّا كان يبتغيه، سارع فجر السابع من نوفمبر 1987 الى تنحية الرئيس بورقيبة اعتمادا على تقارير طبية تثبت عجزه عن القيام بمهامه. وبهذه الطريقة الحكيمة والهادئة، والفريدة من نوعها في العالم العربي، وفي العالم الثالث، وبهذا السلوك الحضاري المبني على احترام الدستور ومبادئ الجمهورية، تمكن بن علي من فتح صفحة جديدة في تاريخ تونس الحديث مخرجا البلاد من نفق مظلم ظلّت تسير فيه شبه عمياء على مدى سنوات طويلة.
وفي بيان السابع من نوفمبر نحن نقف على المبادئ الأساسية لسياسة الرئيس بن علي على المستوى الداخلي والخارجي. ففي هذا البيان التاريخي التزام وتمسّك بدولة القانون والمؤسسات، وبالدستور، وبالمصالحة الوطنية، وبسيادة الشعب، وباحترام الحريات العامّة، وبإقرار الديمقراطية والتعدّدية السياسية، وبالعمل على الحفاظ على الهوية العربية ـ الاسلامية للشعب التونسي، وبالانفتاح على منجزات العصر الحديث، وعلى الغرب، صانع الحضارة على مدى قرون طويلة. ولتحقيق مثل هذه المبادئ وهذه الاهداف التي رسمها منذ اليوم الاول لتوليه السلطة، شرع الرئيس بن علي المتشبه بالأفكار الإصلاحية، والعارف جيّدا بروح العصر، في احداث الإصلاحات اللازمة سواء على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الثقافي، ضامنا مناخا جديدا من الوفاق الوطني، معبّرا الاعتبار للدولة ولمؤسساتها، مدعّما الحريات العامة والفردية في كنف القانون وضمن العديد من التعديلات القضائية والتشريعية، معمّقا الإجراءات المتصلة بحرية المرأة، وبدورها في بناء المجتمع الجديد الذي يطمح اليه كل التونسيين. ولأنه كان مدركا منذ البداية للدور الهام الذي ستلعبه الأجيال الشابة في بناء المجتمع الجديد، فانّ الرئيس بن علي قام بإجراء تغييرات جذرية في جميع البرامج التعليمية مركزا بالخصوص على قيم التسامح، والمحبة والوفاء للوطن، والانفتاح على الآخر بقطع النظر عن جنسه، ولغته، ودينه، ولونه. كما مكن الاجيال الشابة من أن تكون قطبا محركا للحياة السياسية. ووفيّا للوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، وعالما ان هذا الوسط هو العمود الفقري للمجتمع التونسي، ركز الرئيس بن علي جهود الدولة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتقليص الفوارق بين مختلف الفئات والطبقات، وعلى التخفليض من نسبة الفقر والتخلف في المناطق التي كانت منسية ومهملة. وفي هذا المجال ـ مجال التنمية ـ تحققت انجازات باهرة. فقد أصبحت كامل مناطق البلاد تنعم بالماء والكهرباء، وبالحياة الكريمة.
وحظيت العائلات المعوزة بالمساعدات والقروض، ومكنت شبكة الطرقات الجديدة الناس من التنقل بسهولة ويسر بين مختلف مناطق الجمهورية. وعلى المستوى الثقافي، ظل الرئيس بن علي وفيّا لثقافة التنوير والإصلاح. وفي جميع خطبه هو يؤكد دائما على أن الثقافة هي «سد للتغيير»، وان بلدا بلا نخب مثقفة ومستنيرة لا يمكن ان يحقق التقدم الذي يطمح إليه شعبه. وبهذا المفهوم، لم تعد الثقافة مجرّد عكاظيات شعرية تنتظم في المنسابات الوطنية، وانما هي نشاط دائم، وخلق لا يمكن أن ينقطع.
ويرى الرئيس بن علي أن تونس مثال حيّ للتنوع الثقافي والحضاري. وهذا ما يؤكده مؤرخون من أمثال حسن حسني عبد الوهاب الذي يشير في «كتاب العمر» الى أن التونسيين اقتبسوا من القرطاجنيين الفلاحة والتجارة والمقايضة وفلح الأرض وغراسة الأشجار. وأخذوا عن الرومانيين سنّ القوانين، وتنظيم المدينة، وتعبيد الطرقات، واستخراج المعادن، وجلب المياه، وتشييد الهياكل. وعن الروم البيزنطيين ورثوا الترف والملاهي والملاذّ والتأنّق في المأكل والملبس والتكلف التبذير. وأما العرب، فقد تعلموا منهم اللغة ومكارم الأخلاق والعدل والمساواة وفصاحة اللسان وحماية العشير. ويضيف حسن حسني عبد الوهاب قائلا : «من يستطيع انكار فضل هذا الامتزاج على التونسيين؟ وقد أحدث فيهم ذكاء فطريا نقلوا به وطنهم من طور الجمود والصمود الى طور النباهة ومنافسة المتغلبين في الصفات والنعوت ومزاحمتهم في استخدام الوسائل والوسائط للاستثمار والاستمتاع بمصالح البلاد ومنافعها».
وإيمانا منه بالتنوع الحضاري والثقافي الذي تتميّز به بلادنا، فتح الرئيس بن علي الابواب واسعة لاحتضان الندوات والمؤتمرات التي تدعو الى الحوار بين الشعوب وبين الأديان، والى نبذ التحجر والتزمت والانغلاق والعنف بجميع أنواعه وأصنافه.
وبهذه الرؤية الحضارية المتكاملة، وبهذه السياسة الوسطية الحكيمة، جنّب الرئيس بن علي تونس الهزّات والرّجات السياسية والاجتماعية الخطيرة التي عرفتها العديد من بلدان العالم الثالث. وبذلك تمكن من أن يبوأ نفسه مكانة بارزة في التاريخ التونسي الحديث. مكانة الحاكم المصلح القدير الذي بنى دولة حديثة وأقام مجتمعا وسطا، وحقق لبلاده الاستقرار والمناعة، وضمن لهياكل ما يمكن أن يقيها شرّ التقلبات ومخاطر الفتن القاتلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق